معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 18 شباط/ فبراير 2024*
فيجاي براشاد
أعلن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في الـ 26 يناير/كانون الثاني، عن بدء مناورة عسكرية ضخمة تسمى “المدافع الصامد 2024” وستستمر حتى نهاية مايو/أيار. سيتم نشر أكثر من 90 ألف جندي من دول “الناتو” (وبلد شريك واحد، السويد)، بما في ذلك خمسين قطعة بحرية وأكثر من ثمانين طائرة، في ثلاثة عشر دولة لإثبات قدرة الحلف و”إرسال رسالة قوية حول استعداده لحماية جميع الحلفاء في مواجهة التهديدات الناشئة”. من بين الدول الأعضاء الواحد والثلاثين في الناتو، هناك ست دول تشترك في الحدود مع روسيا (فنلندا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، والنرويج). وتأتي تدريبات “الناتو” في الوقت الذي أعلن فيه الاتحاد الأوروبي أنه سيقدم لأوكرانيا دعمًا ماليًا بقيمة 50 مليار يورو من الآن وحتى عام 2027، مما يمثل تراجعا في حجم الدعم مقارنة بدعم شمال الأطلسي على مدار العامين الماضيين. ومع تراجع الدعم الشعبي للحرب في أوكرانيا بدول الشمال العالمي، قررت الحكومات تصعيد التوترات على طول الحدود الروسية من خلال حلف شمال الأطلسي.
بعد الإعلان عن مناورات “المدافع الصامد 2024″، توجه الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ إلى الولايات المتحدة والتقى بوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في البنتاغون. ومن المثير للاهتمام أن تصريحاتهم العلنية لم تعبر عن أي قلق تجاه الشعب الأوكراني. وأشار ستولتنبرغ بدلاً من ذلك إلى قلق الشمال العالمي بشأن روسيا والصين، قائلاً إن دعم أوكرانيا هو “استثمار في أمننا لأن العالم سيصبح أكثر خطورة إذا فاز الرئيس بوتين في أوكرانيا”، محذراً من أن نتيجة هذا الصراع “تتم مراقبتها عن قرب في الصين”. لذا، ليس المهم هو الأوكرانيين ورفاهيتهم، بل الضرورة الجيواستراتيجية للشمال العالمي لرؤية روسيا (وبالتالي الصين) “تضعف”، كما قال أوستن في كييف قبل عامين.
لتسليط الضوء على هذا الصراع وتداعياته العالمية وإمكانية السلام، تم تخصيص بقية هذه المراسلة لموجز “لا للحرب الباردة” رقم 12: “يجب أن تنتهي الحرب في أوكرانيا”.
قبل عامين، في 24 شباط/ فبراير 2022، دخلت القوات الروسية أوكرانيا. لم يكن هذا الفعل بداية الحرب في أوكرانيا. لم يكن السبب في ذلك سوى تسارع الصراع الذي يعود تاريخه إلى عام 2014 على الأقل. في ذلك العام، وبإيعاز من الولايات المتحدة، تم فرض حكومة جديدة على أوكرانيا، بهدف تقريب البلاد من الاتحاد الأوروبي. أدى هذا إلى بدء الاضطهاد المستمر للسكان الناطقين بالروسية في البلاد. تحرك الصراع بسرعة، حيث أصبحت شبه جزيرة القرم بحكم الأمر الواقع جزءًا من روسيا مرة أخرى وأصبحت منطقة دونباس في أوكرانيا خط المواجهة في الصراع بين القوميين اليمينيين المتطرفين الأوكرانيين والمتحدثين بالروسية. في أيار/ مايو 2019، تولى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منصبه وتعهد بإنهاء المعركة في دونباس. وبدلاً من ذلك، ونتيجة ضغط من “الناتو”، اشتد الصراع، مما أدى في النهاية إلى التدخل الروسي بعد ثلاث سنوات. من الضروري بالنسبة لشعوب أوكرانيا وروسيا والعالم أن تتوقف الحرب وأن يتم نقل المشاكل من ساحة المعركة إلى طاولة المفاوضات.
ما هو تأثير الحرب؟
في أي صراع، تصبح أعداد الضحايا موضع خلاف. ومع ذلك، لا يوجد خلاف كبير على أن أكثر من 500 ألف جندي أوكراني وروسي قتلوا أو أصيبوا في هذه الحرب، وأن أكثر من ستة ملايين أوكراني فروا من البلاد، وأن أكثر من سبعة ملايين أوكراني نزحوا داخليًا (من أصل حوالي 44 مليون نسمة قبل الحرب). وإذا لم تتوقف الحرب، فسوف يُقتل عشرات الآلاف ويعاني عشرات الملايين.
لقد تعرض الاقتصاد الأوكراني للدمار، و انكمش بنسبة 29% في عام 2022 وحده، وفقًا للبنك الدولي. وتردد صدى الحرب في جميع أنحاء العالم، مما تسبب في ارتفاع أسعار القمح بنسبة 21% وارتفاع أسعار بعض الأسمدة بنسبة 40% خلال الشهر الأول من الصراع. وتضررت بلدان الجنوب العالمي بشدة بشكل خاص من الزيادات الحادة في أسعار المواد الغذائية والطاقة في العديد من المناطق، بينما كان الاقتصاد الأوروبي يتجه نحو الركود. وفي بلدان أخرى، تم تحويل مبالغ فلكية من الموارد إلى الحرب، وكان من الممكن بدلاً من ذلك استخدامها في الإنفاق الاجتماعي والاقتصادي. لقد أنفقت الولايات المتحدة وأوروبا بالفعل ما يزيد عن 200 مليار دولار على الحرب. وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، طلب قائد القوات المسلحة الأوكرانية من وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن مبلغًا إضافيًا قدره 350-400 مليار دولار لتحقيق “النصر”.
في الواقع، لن يؤدي أي مبلغ من المال إلى تحقيق انتصار عسكري. ومن الواضح، خاصة بعد فشل “الهجوم المضاد” الأوكراني، أنه لم يكن هناك تغيير كبير في الوضع العسكري، ولا يوجد احتمال موثوق بحدوث ذلك. إن الاستمرار في دفع مثل هذه التكاليف البشرية والاقتصادية الضخمة سيكون بدون هدف.
ما هي القضايا التي تحتاج إلى حل؟
1) موقف أوكرانيا من التكتلات العسكرية. في نهاية الحرب الباردة، أتيحت لأوروبا الفرصة لمتابعة التنمية الاقتصادية السلمية. وكان من الممكن تشكيل اقتصاد متماسك ومتوازن يتمتع بإمكانات هائلة من خلال خفض الإنفاق العسكري، مع الجمع بين الصناعات التحويلية وصناعات الخدمات ذات القيمة المضافة العالية في أوروبا الغربية، مع صناعات الطاقة والمواد الخام والزراعة والصناعات التكنولوجية المتقدمة مثل الفضاء مع الاتحاد السوفييتي السابق. وفي شرق آسيا، التي تغلبت على فترة شهدت انقسامات وصراعات أكبر أثناء الحرب الباردة (كما رأينا في الحرب الكورية وحروب فيتنام والهند الصينية المتعاقبة)، أدى التركيز على التنمية الاقتصادية ذات المنفعة المتبادلة وتجنب الكتل العسكرية والسياسية إلى أن تصبح المنطقة الاقتصادية الأسرع نموًا في العالم. ويتجلى ذلك في حقيقة أنه منذ عام 1990، سجل الناتج المحلي الإجمالي لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) نمواً بنسبة تزيد على 400%. ومع ذلك، في أوروبا، أصرت الولايات المتحدة على عدم اتباع مثل هذه السياسات، وبدلاً من ذلك، عملت المنطقة على توسيع حلف “الناتو” عسكريا نحو أوروبا الشرقية، مما أدى إلى انتهاك الالتزام الذي تعهدت به إبّان إعادة توحيد ألمانيا بأن “الناتو” لن يتقدم “بوصة واحدة شرقاً” باتجاه روسيا. وكانت الولايات المتحدة تدرك تمام الإدراك أن توسع حلف شمال الأطلسي من شأنه أن يؤدي إلى تأجيج التوترات إلى حد كبير مع روسيا ومختلف أنحاء أوروبا. وكان من الأمور الحساسة بشكل خاص احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي من شأنه أن يوصل الحلف المسلح نووياً إلى النطاق الذي يسمح له بضرب موسكو مباشرة. وقد نصح العديد من الخبراء في شؤون أوروبا الشرقية وروسيا بشدة وبشكل متكرر بعدم القيام بهذا التوسع لحلف شمال الأطلسي. الأكثر شهرة من بينها، هو أن جورج كينان، المهندس الأصلي لسياسة الحرب الباردة الأمريكية، تنبأ في عام 1997 بأن “توسيع الناتو سيكون الخطأ الأكثر مصيرية في السياسة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة بأكملها”. وفي ديسمبر/كانون الأول 2021، اقترحت روسيا اتفاقًا يقضي بأن أوكرانيا لن تصبح عضوًا في الناتو. في المفاوضات التي جرت في مارس/آذار 2022، اقترحت أوكرانيا اعتماد وضع محايد مقابل ضمانات أمنية، مستوحاة من بند الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي، والذي كان من الممكن أن يشمل بولندا وإسرائيل وتركيا وكندا كدول ضامنة. وقد تمت عرقلة ذلك من قبل “الناتو”، وجرى نقل ذلك مباشرة عن طريق الزيارة العاجلة التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أوكرانيا في مايو 2022، وبالتالي حال دون نهاية سريعة للحرب.
2) وضع الأقلية الناطقة بالروسية في أراضي الدولة الأوكرانية (كما تشكلت عام 1991). وجد تعداد عام 2001 أن ما يقرب من 30% من سكان أوكرانيا يعتبرون اللغة الروسية هي لغتهم الأم. ولا يمكن للدول التي تضم عددًا كبيرًا من الأقليات اللغوية والعرقية أن تحافظ على وحدتها إلا إذا تم احترام حقوق هذه الأقليات. وبالتالي فإن سياسات الحكومة الأوكرانية بعد عام 2014، والتي تضمنت قمع الاستخدام الرسمي للغة الروسية في العديد من المجالات، كان لا بد أن تؤدي إلى أزمة متفجرة داخل الدولة الأوكرانية. وكما ذكرت لجنة البندقية التابعة لمجلس أوروبا، والتي لا يمكن اتهامها بالتأكيد بأنها موالية لروسيا: “إن القانون الحالي بشأن الأقليات القومية بعيد كل البعد عن توفير ضمانات كافية لحماية الأقليات… والعديد من الأحكام الأخرى التي تقيد استخدام لغات الأقليات دخلت حيز التنفيذ بالفعل منذ 16 تمّوز/ يوليو 2019”. هناك طريقتان فقط لحل هذا الوضع: استعادة الحقوق اللغوية وغيرها من الحقوق الكاملة للأقلية الناطقة بالروسية داخل حدود الدولة الأوكرانية القديمة أو انفصال هذه المناطق عن أوكرانيا. وستكون النتيجة التي سيتم تحقيقها موضوعًا رئيسيًا للمفاوضات. ومع ذلك، فمن الواضح أن أي محاولة للحفاظ على الأقلية الناطقة بالروسية داخل الدولة الأوكرانية مع الاستمرار في حرمانهم من حقوقهم لن تنجح، ولن تنجح أيضًا أي محاولة من جانب روسيا لفرض دولة أخرى على السكان الناطقين بالأوكرانية في غرب وشمال أوكرانيا.
إن جميع الجهود المبذولة لحل هذه القضايا بالوسائل العسكرية ستظل غير مجدية ولن تؤدي إلا إلى مزيد من المعاناة الشديدة، خاصة للشعب الأوكراني. وسوف تصبح هذه الحقائق واضحة على نحو متزايد إذا استمرت الحرب ــ ولهذا السبب فلابد من وقفها في أسرع وقت ممكن وبدء المفاوضات.
في عام 1961، كتب الشاعر السوفييتي فولوديمير ميكولايوفيتش سوسيورا أغنية حول قوة الكلمات. ولد سوسيورا في ديبالتسيف (دونيتسك اليوم) عام 1898 ضمن الإمبراطورية القيصرية وتوفي وهو عضو في الحزب الشيوعي في كييف عام 1965. وكتب عدة قصائد تأرجحت بين حبه الوطني لأوكرانيا والتزامه بالاتحاد السوفياتي والنضال الشيوعي. والأهم من ذلك كله أن سوسيورا ــ الذي قاتل في الحرب العالمية الأولى في باخموت ثم انضم بعد ذلك إلى الجيش الأحمر ــ كان يكره الحرب بشدة. لقد أدرك أهمية الحرب ضد النازيين، لكنه – مثل العديد من أبناء جيله – تحسر على الخسائر الفادحة في الأرواح التي خلفتها هذه الحرب، مثل 27 مليون مواطن سوفييتي، من بينهم 19 مليون مدني، الذين ماتوا في المعركة لهزيمة الجيوش النازية. كان هذا سياق قصيدة سوسيورا الجميلة حول الكلمات:
أنا أعرف قوة الكلمة.
وهي أشد حدة من الحربة
وأسرع حتى من الرصاصة،
أسرع من الطائرة.
…
يا سلاح السعادة: كلمة!
أنا معتاد على العيش بجانبك.
أنت زهرة في الحب،
أنت حربة في الكراهية.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 15 شباط/ فبراير 2024.