معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 17 أغسطس/ آب 2024
فيجاي براشاد
كان هناك ذعر واسع حول كيفية فهم ظهور دونالد ترامب كمرشح جدي لمنصب رئيس الولايات المتحدة منذ 2016. ترامب ليس ظاهرة معزولة، فقد صعد إلى السلطة إلى جانب رجال أقوياء آخرين مثل فيكتور أوربان (رئيس وزراء المجر منذ 2010)، ورجب طيب أردوغان (رئيس تركيا منذ 2014)، وناريندرا مودي (رئيس وزراء الهند منذ 2014). يبدو أن أمثال هؤلاء، الذين وصلوا إلى السلطة وعززوا حكمهم من خلال المؤسسات الليبرالية، من المستحيل إزاحتهم بشكل دائم عبر صناديق الاقتراع. لقد أصبح من الواضح أن هناك تحولًا نحو اليمين في الدول الديمقراطية الليبرالية، التي تؤكد دساتيرها على الانتخابات متعددة الأحزاب، بينما تتيح المجال لحكم الحزب الواحد أن يترسخ تدريجيًا.
كانت الديمقراطية الليبرالية ولا تزال مفهومًا متنازعًا عليه إلى حدٍ كبير، ظهر من عند القوى الاستعمارية الأوروبية والأمريكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وجاءت مزاعمها بالتعددية الداخلية والتسامح وسيادة القانون والفصل بين السلطات السياسية في نفس الوقت الذي كانت تمارس فيه غزواتها الاستعمارية وتستخدم الدولة للحفاظ على السلطة الطبقية على مجتمعاتها. لا يمكن التوفيق بسهولة بين الليبرالية اليوم وواقع أن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) تستحوذ على 74.3% من الإنفاق العسكري العالمي.
شهدت البلدان ذات الدساتير التي تؤكد على الانتخابات المتعددة الأحزاب، على نحو متزايد، التأسيس التدريجي لما هو فعليًا حكم الحزب الواحد. وقد يخفي حكم الحزب الواحد هذا في بعض الأحيان وجود حزبين أو حتى ثلاثة أحزاب، مما يغطي على حقيقة أن الفرق بين هذه الأحزاب أصبح ضئيلاً بشكل متزايد.
بات من الواضح أن طرازا جديدا من اليمين قد ظهر ليس فقط من خلال الانتخابات ولكن عبر ممارسة الهيمنة في ميادين الثقافة والمجتمع والأيديولوجيا والاقتصاد، وأن هذا النوع الجديد من اليمين ليس بالضرورة معنيا بالإطاحة بمعايير الديمقراطية الليبرالية. وهذا هو ما أطلقنا عليه ”العناق الحميم بين الليبرالية واليمين المتطرف“، اقتداءً بكتابات زميلنا الراحل الكبير إعجاز أحمد.
تسمح لنا تركيبة هذا ”العناق الحميم“ بفهم أنه لا يوجد تناقض ضروري بين الليبرالية واليمين المتطرف، بل إن الليبرالية ليست درعًا ضد اليمين المتطرف، وبالتأكيد ليست ترياقًا مضادًا له. هناك أربعة عناصر نظرية أساسية لفهم هذا ”العناق الحميم“ وصعود هذا اليمين المتطرف من نوع خاص:
- قضت سياسات التقشف النيوليبرالية في البلدان ذات المؤسسات الانتخابية الليبرالية على مخططات الرعاية الاجتماعية التي كانت تسمح للحساسيات الليبرالية بالوجود. وتحول فشل الدولة في رعاية الفقراء إلى قسوة تجاههم.
- بدون التزام جاد بالرعاية الاجتماعية وخطط إعادة التوزيع، انجرفت الليبرالية نفسها إلى عالم السياسات اليمينية المتطرفة، التي تشمل زيادة الإنفاق على الجهاز القمعي الداخلي الذي يراقب أحياء الطبقة العاملة والحدود الدولية إلى جانب التوزيع البخيل المتزايد للخيرات الاجتماعية، والتي لا تُصرف إلا إذا سمح المستفيدون منها بتجريدهم من حقوق الإنسان الأساسية (مثل ”الموافقة“ على الاستخدام الإجباري لتحديد النسل).
- في هذا الميدان، وجد اليمين المتطرف من نوع خاص أنه أصبح مقبولاً أكثر فأكثر كقوة سياسية نظراً لتوجه الأحزاب الليبرالية إلى السياسات التي كان اليمين المتطرف يدعو إليها. وبعبارة أخرى، فإن هذا الميل إلى سياسات اليمين المتطرف سمح لليمين المتطرف بأن يصبح تيارًا سائدًا.
- أخيرًا، توحدت القوى السياسية الليبرالية واليمين المتطرف في جميع المجالات لتقليص قبضة اليسار على المؤسسات. لا يوجد بين اليمين المتطرف ونظرائه الليبراليين اختلافات اقتصادية جوهرية فيما يتعلق بالطبقية. ففي البلدان الإمبريالية، هناك التقاء كبير جدًا في وجهات النظر حول الحفاظ على الهيمنة الأمريكية، والعداء والاحتقار لبلدان الجنوب، وتزايد النزعة العدوانية كما يتضح من الدعم العسكري الكامل للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين.
بعد هزيمة الفاشية الإيطالية والألمانية واليابانية سنة 1945، شعر المعلقون الغربيون بالقلق من احتضان اليمين المتطرف في مجتمعاتهم. وفي الوقت نفسه، أدرك معظم الماركسيين أن اليمين المتطرف لم يظهر من العدم، بل من تناقضات الرأسمالية نفسها. لم يكن انهيار الرايخ الثالث سوى مرحلة في تاريخ اليمين المتطرف وتطور الرأسمالية: سيظهر اليمين المتطرف مرة أخرى، ربما مرتديًا ثيابًا مختلفة.
كتب الماركسي البولندي ميخائيل كاليكي، سنة 1964، مقالًا محفزًا بعنوان “فاشية عصرنا” (“Faszyzm naszych czasów”). وفي ذلك النص، قال كاليكي إن الأنواع الجديدة من الجماعات الفاشية التي كانت تظهر في ذلك الزمن كانت ”تستهوي العناصر الرجعية في الجماهير العريضة من السكان“ وكانت ”مدعومة من قبل أكثر الجماعات رجعية في الشركات الكبرى“. ومع ذلك، كتب كاليكي أن ”الطبقة الحاكمة ككل، على الرغم من أنها لا تعتز بفكرة استيلاء الجماعات الفاشية على السلطة، إلا أنها لا تبذل أي جهد لقمعهم وتكتفي بالتوبيخ على الحماسة المفرطة“. ويستمر هذا الموقف حتى اليوم: فالطبقة الحاكمة ككل لا تخشى صعود هذه الجماعات الفاشية، بل تخشى فقط من سلوكها ”المفرط“، في حين أن أكثر القطاعات الرجعية في الشركات الكبرى تدعم مالياً هذه الجماعات.
وبعد عقد ونصف من الزمن، عندما بدا أن رونالد ريغان كان على وشك أن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة، نشر برترام غروس كتاب ”الفاشية الودية: الوجه الجديد للسلطة في أمريكا” (1980)، والذي استفاد فيه كثيرًا من كتاب ”نخبة السلطة“ (1956) لـ سي رايت ميلز وكتاب ”رأس المال الاحتكاري: مقال عن النظام الاقتصادي والاجتماعي الأمريكي” (1966) لبول أ. باران وبول م. سويزي. وقد جادل غروس بأنه بما أن الشركات الاحتكارية الكبيرة قد خنقت المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة، فإن اليمين المتطرف لا يحتاج إلى أحذية عالية وصلبان معقوفة: هذا التوجه سيأتي من خلال مؤسسات الديمقراطية الليبرالية ذاتها. من يحتاج إلى الدبابات عندما يكون لديك البنوك للقيام بالعمل القذر؟
تذكّرنا تحذيرات كاليكي وغروس بأن العلاقة الحميمة بين الليبرالية واليمين المتطرف ليست ظاهرة جديدة، بل تنبثق من عمق الأصول الرأسمالية لليبرالية: لم تكن الليبرالية يومًا ما سوى الوجه الودود للوحشية الطبيعية للرأسمالية.
يستخدم الليبراليون كلمة ”فاشية“ للنأي بأنفسهم عن اليمين المتطرف. إن توظيف المصطلح بهذا الشكل ليس دقيقا بل حكم أخلاقي لأنه ينكر العلاقة الحميمة بين الليبراليين واليمين المتطرف. ولهذه الغاية، قمنا بصياغة عشر أطروحات حول هذا اليمين المتطرف من نوع خاص، نأمل أن تثير النقاش. هذا بيان مؤقت، ودعوة للحوار.
الأطروحة الأولى. يستخدم اليمين المتطرف من نوع خاص الأدوات الديمقراطية قدر الإمكان. إذ يؤمن بالسيرورة المعروفة بـ ”المسيرة الطويلة عبر المؤسسات“، والتي من خلالها يبني بصبر السلطة السياسية ويزود المؤسسات الدائمة للديمقراطية الليبرالية بكوادره الذين يدفعون بآرائهم بعد ذلك في الفكر السائد. كما أن المؤسسات التعليمية هي أيضًا مفتاح اليمين المتطرف من نوع خاص لأنها تحدد المناهج الدراسية للطلاب في بلدانهم. وليس هناك حاجة لهذا اليمين إلى تنحية هذه المؤسسات الديمقراطية جانبًا طالما أنها توفر الطريق إلى السلطة ليس فقط على الدولة، بل على المجتمع.
الأطروحة الثانية. يقود اليمين المتطرف من نوع خاص استنزاف الدولة وتحويل وظائفها إلى القطاع الخاص. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يساعد نزوعه إلى التقشف على استنزاف الكوادر المهنية في وظائف الدولة الأساسية كماً ونوعاً، مثل وزارة الخارجية الأمريكية. وبدلاً من ذلك، فإن العديد من وظائف هذه المؤسسات، التي تمت خصخصتها الآن، تتم تحت رعاية منظمات غير حكومية يقودها مليارديرات رأسماليون حديثو الظهور مثل تشارلز كوخ وجورج سوروس وبيير أوميديار وبيل غيتس.
الأطروحة الثالثة. يستخدم اليمين المتطرف من نوع خاص أجهزة الدولة القمعية بقدر ما هو مسموح به قانونيًا لإسكات منتقديه وتثبيط حركات المعارضة الاقتصادية والسياسية. وتوفر الدساتير الليبرالية مجالًا واسعًا لهذا النوع من التوظيف، وهو ما استغلته القوى السياسية الليبرالية على مر الزمن لقمع أي مقاومة من الطبقة العاملة والفلاحين واليسار.
الأطروحة الرابعة. يحرض اليمين المتطرف من نوع خاص على جرعة من العنف في المجتمع من قبل العناصر الأكثر فاشية داخل تحالفه السياسي لخلق الخوف، ولكن ليس خوفًا كافيًا لقلب الناس ضده. معظم الناس من الطبقة الوسطى في جميع أنحاء العالم يبحثون عن الراحة ويتضايقون من الإزعاج الذي يطالهم (مثل ذلك الذي ينتج عن أعمال الشغب، إلخ). ولكن، في بعض الأحيان، لا يؤدي اغتيال زعيم عمالي أو تهديد مسلح لصحفي إلى إلقاء اللوم على اليمين المتطرف من نوع خاص، والذي غالبًا ما ينكر على عجل أي ارتباط مباشر مع الجماعات الفاشية الهامشية (المرتبطة مع ذلك ارتباطًا عضويًا باليمين المتطرف).
الأطروحة الخامسة. يقدم اليمين المتطرف من نوع خاص إجابة جزئية على الوحدة المتشكلة في نسيج المجتمع الرأسمالي المتقدم. تنبع هذه الوحدة من الاغتراب الناجم عن ظروف العمل غير المستقرة وساعات العمل الطويلة، والتي تتسبب في تآكل إمكانية بناء مجتمع وحياة اجتماعية نابضة بالحياة. لا يبني هذا اليمين المتطرف مجتمعًا فعليًا، إلا عندما يتعلق الأمر بعلاقته الطفيلية مع المجتمعات الدينية. وبدلًا من ذلك، فإنه يطور فكرة المجتمع من خلال الإنترنت أو التعبئة الجماعية للأفراد أو الرموز والإيماءات المشتركة. يبدو أن التوق الهائل للجماعة يحلها اليمين المتطرف، في حين أن جوهر الوحدة يذوب في الغضب بدلًا من الحب.
الأطروحة السادسة. يستخدم اليمين المتطرف من نوع خاص قربه من التكتلات الإعلامية الخاصة لتطبيع خطابه، وقربه من أصحاب وسائل التواصل الاجتماعي لزيادة القبول المجتمعي لأفكاره. هذا الخطاب شديد التحريض يخلق حالة من الهيجان والتعبئة لقطاعات من السكان سواء عبر الإنترنت أو في الشوارع للمشاركة في المسيرات التي تظل مع ذلك فردية وليست جماعية. يخف الشعور بالوحدة الذي يولده الاغتراب الرأسمالي للحظة، ولكن لا يتم التغلب عليه.
الأطروحة السابعة. اليمين المتطرف من نوع خاص تنظيم أخطبوطي، تنتشر جذوره في مختلف قطاعات المجتمع. ويعمل في أي مكان يتجمع فيه الناس، سواء في النوادي الرياضية أو المنظمات الخيرية. ويهدف إلى بناء قاعدة جماهيرية في المجتمع متجذرة في هوية الأغلبية في مكان معين (سواء كانت عرقية أو دينية أو شعورًا بالكيان الوطني) من خلال تهميش وشيطنة أي أقلية. وفي العديد من البلدان، يعتمد هذا اليمين المتطرف على البنى والشبكات الدينية لترسيخ رؤية محافظة للمجتمع والأسرة بشكل أعمق من أي وقت مضى.
الأطروحة الثامنة. يهاجم اليمين المتطرف من نوع خاص مؤسسات السلطة التي هي أساس قاعدته الاجتماعية والسياسية. ويخلق الوهم بأنه عامّي وليس أرستقراطيًا، في حين أنه في الواقع متغلغل في جيوب الأوليغارشية. ويخلق وهم العامية من خلال تطوير شكل شديد الذكورية من القومية المفرطة التي يتقاطر انحطاطها في خطابه القبيح. ويمتطي هذا اليمين المتطرف قوة التستوستيرون النابع من هذه القومية المفرطة بينما يتظاهر بأنه ضحية في مواجهة السلطة.
الأطروحة التاسعة. إن اليمين المتطرف من نوع خاص هو تشكيل دولي، منظم من خلال منصات مختلفة مثل حركة ستيف بانون (ومقرها في بروكسل)، ومنتدى مدريد التابع لحزب فوكس (ومقره في إسبانيا)، ومؤسسة الزمالة المناهضة للمثليين والمتحولين جنسيًا – LGBTQ+ (ومقرها في سياتل بواشنطن). هذه الجماعات متجذرة في مشروع سياسي في العالم الأطلسي يعزز دور اليمين في الجنوب العالمي ويوفر لهم الأموال اللازمة لتعميق الأفكار اليمينية حيث لا توجد لديهم تربة خصبة. ويخلقون ”مشاكل“ جديدة حيث لم تكن موجودة على هذا النطاق من قبل، مثل الضجة حول الجنسانية في شرق أفريقيا. هذه ”المشاكل“ الجديدة تضعف حركات الشعوب وتُحكم قبضة اليمين على المجتمع.
الأطروحة العاشرة. على الرغم من أن اليمين المتطرف من نوع خاص قد يقدم نفسه كظاهرة عالمية، إلا أن هناك اختلافات بين كيفية ظهوره في الدول الإمبريالية الرائدة مقابل دول الجنوب. ففي الشمال العالمي، يدافع كل من الليبراليين واليمين المتطرف بقوة عن الامتيازات التي اكتسبوها من خلال النهب على مدى الخمسمائة عام الماضية – عبر وسائلهم العسكرية وغيرها – بينما في الجنوب العالمي فإن الاتجاه العام بين جميع القوى السياسية هو ترسيخ السيادة.
إن اليمين المتطرف من نوع خاص ينشأ في فترة تتسم بالفرط–إمبريالية لإخفاء حقيقة السلطة القبيحة والتظاهر بأنه يهتم بالأفراد المعزولين الذين يضر بهم بدلاً من ذلك. إنه يعرف الحماقة البشرية جيدًا ويستغلها.
ملاحظة: ما لم يُذكر خلاف ذلك، فإن الرسوم الفنية الواردة في هذه المراسلة مأخوذ من الملفين “ملابس جديدة وخيوط قديمة: الهجوم اليميني الخطير في أمريكا اللاتينية” (2021) و”ماذا يمكننا أن نتوقع من الموجة التقدمية الجديدة في أمريكا اللاتينية؟” (2023).
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 15 أغسطس/ آب 2024.