[رأي]. من 7 أكتوبر حتى 7 أكتوبر.. مشاهد من تطبيع نظام مصر وتضامن شعبها

مشاركة المقال

مدار: 08 تشرين الأول/ أكتوبر 2024

محمد السادات (مصر)*

بعد هجوم المقاومة الفلسطينية المباغت في السابع من أكتوبر العام الماضي، واختطافها عددا من الرهائن واقتحامها بعض المستوطنات وتدميرها بعض المعسكرات في جوار غزة، أصبح من المحتم أن تتدخل مصر في تلك المعركة المفاجئة. إن دور مصر في الصراع العربي الإسرائيلي محوري؛ لطالما كانت من رواد المفاوضات بين الطرفين بصفتها دولة مركزية في المنطقة ولديها اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني، وعلاقات دبلوماسية مع سلطة حماس في القطاع، إلا أن التغييرات النيوليبرالية بالمنطقة وسياسات الخصخصة التى تتبعها مصر منذ 11 عامًا وتدخل رأس المال الخليجي في سياساتها كان لها دور أكبر في هذه المسألة.

لدى مصر والمقاومة تاريخ مشترك، بدأ مع حرب 1948 التى شاركت فيها القوات المصرية وتلقت هزيمة فادحة بسبب الأسلحة الفاسدة المستوردة وتواطؤ الملكية المصرية التى من تبعاتها تكون تنظيم الضباط الأحرار، وبالتالي استقلال البلاد، وتولي جمال عبد الناصر الرئاسة ليصبح شعار “تحرير فلسطين يبدأ من تحرير القاهرة” هو شعار المرحلة. فتأميم قناة السويس عام 1956 نتجت عنه حرب العدوان الثلاثي على مدن القناة، وهي الحرب التي شهدت تضامنًا أمميًا وعربيًا كبيرًا، وأثبتت أن العداء مع الكيان الصهيوني هو ركيزة في قلب الهوية المصرية. لكن انقلب ذلك بعد نصر أكتوبر وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد وتحول مصر إلى سياسة الإنفتاح واستغلال أموال الخليج في الاستثمارات المصرية، لينتج لنا دولة راضخة تمامًا للعولمة وتأثير الدولار الأمريكي وفقدان الجزء الأكبر من هويتها المقاتلة للكيان الصهيوني على حساب العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة والكيان.

 مع الصاروخ الأول من الكيان الصهيوني تجاه غزة دائمًا ما يكون هناك تهديد للسيادة المصرية في المنطقة، فلم يمض يومان من القصف العنيف على غزة إلا وكان اليوم الثالث قصفًا مباشرًا على الناحية المصرية من معبر رفح، دونما أي اعتبار للسيادة المصرية أو الاتفاقيات بين البلدين. كانت المشاهد واضحة، فالطيران الإسرائيلي يتجاوز حدوده ويقصف في مناطق واضحه للعيان في نويبع وذهب ورفح. وتداول المواطنون العديد من مقاطع الفيديو لقصف الصواريخ، لتنذرنا بمرحلة جدية من تجاوز الكيان وإجرامه غير مسبوقة. بالطبع حشدت مصر قواتها على حدودها مع معبر رفح كموقف بروتوكولي لا أكثر، وظللنا في حالة انتظار دون أي تفسير من جانب الدولة المصرية لهذه التجاوزات. وكان مصدرنا للأخبار في هذا الوقت هو التصريحات الإسرائيلية. انتشر في ذلك الوقت شعور بالقلق في الشارع المصري، وصاحبته علامات من الغموض والتعجب.

 تفاقم الوضع في غزة، إذ وصل عدد الضحايا في الشهور الأولى إلى 12000 شهيد، بينهم أطفال ونساء ونازحون، وتم تداول العديد من المقاطع لقنص النازحين وسط شعور بالإحباط والعجز متفش في الشارع المصري. لقد سارعت مصر إلى إعداد قوافل من المساعدات وتلقي مساعدات غيرها لإدخالها لأهالي غزة عبر معبر رفح، وقد شاركت بحوالي 80% من المساعدات، إلا أن الشروط الإسرائيلية كانت الأكثر حزمًا والأكثر تعطيلًا لإدخالها؛ فكل المساعدات لابد أن تمر بتفتيش إسرائيلي قبل تسليمها للجهات المعنية في غزة. وتم تعطيل وإغلاق المعبر في وجه المساعدات فترات كثيرة، ما كان سببًا أساسيًا من أسباب مجاعة شمال غزة وسط عجز من الجانب المصري. لكن يحسب للجانب المصري أنه أصر على عدم إخراج الأجانب من غزة إلا في حالة إدخال المساعدات، وقد كان.

 كان الدور المصري في الشهور الأولى من حرب غزة دور وساطة مع الولايات المتحدة الأمريكية لإدخال المساعدات، فكانت مصر تجمع المساعدات وتعدها وتنقلها بريًا إلى معبر رفح وتتواصل مع الولايات المتحدة للوساطة في إدخالها، لتنتهي تلك الفترة بقصف الكيان معبر رفح وإغلاقه تمامًا في وجه المساعدات، لينقطع تأثير الجانب المصري، ومعه تجاوز شروط اتفاقية كامب ديفيد بسيطرة الكيان على محور صلاح الدين.

 تلك المشاهد هي مشاهد إسقاط للسيادة المصرية، وخضوع البلاد لضغط الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تتبع القاهرة دور الوسيط للوصول إلى حل لإنهاء الحرب، ولم تكن حاضرة في بعض من مراحله، فبعض من اقتراحات الصلح كانت أمريكية خالصة. وكوفئ هذا الرضوخ في النهاية بإعلان الولايات المتحدة دعمها الكلي للمساعدات العسكرية لمصر منذ عام 2020. تلك العلاقات الراضخة لرأس المال العالمي لم تقتصر على الولايات المتحدة، فمصر تعتمد منذ عدة سنوات على رأس المال الإماراتي والسعودي. ولعل أشهر تدخلات رأس المال الخليجي هي صفقة رأس الحكمة مع الإمارات، ثم مشروع تهجير سكان جزيرة الوراق لتسليمها للإمارات لإقامة مشروع منتجع على حساب تهجير السكان، بالإضافة إلى تمويل دول الخليج بعض الصناديق السيادية المصرية؛ وكان أكثرها خطورة على السيادة المصرية مشروع صندوق سيادي على قناة السويس.

 إن تلك السياسات إقصائية في الأصل، فهي تقصي الشعب المصري من القرارات السياسية في هذا الوضع الحرج الذي يتم فيه تهديد الحدود المصرية وارتكاب مجازر دموية على حدودها. فالعلاقات المصرية الإماراتية التي تبين مدى تأثير رأس مال الإمارات في مصر وتمويلها المستمر للدولة تؤثر بالضرورة على العلاقات مع الكيان الصهيوني، فالإمارات العربية تعلن بلا حرج تطبيعها مع إسرائيلي وتشبه الشعب الفلسطيني بالإرهابي؛ بل وتدعم الكيان الصهيوني في حقه في الرد على حماس. وفي المقابل تمنع مصر أي تظاهرة داعمة لغزة وتمنع الجمهور من ارتداء الكوفية الفلسطينية أو رفع علم فلسطين في المدرجات، في حادثة غير مسبوقة.

وبعد أن طلب الرئيس عبد الفتاح السيسي من المتظاهرين أن ينزلوا الشوارع داعمين له في حق اتخاذ القرار بشأن القضية الفلسطينية جرى اعتقال ما يزيد عن 100 بل 120 شخصا لدعمهم فلسطين، ومنهم شادي محمد، لرفعه يافطة داعمة لفلسطين. وتبرز الحادثة الشهيرة لأمين شرطة مصري صعد فوق إحدى لافتات الإعلانات ورفع علم فلسطين. كما تم اعتقال طالبين جامعيين لتدشينهما صفحة على “فيسبوك” داعمة لفلسطين، وتم الإفراج عنهما مؤخرًا. وأخيرًا تم اعتقال النساء المتظاهرات دعمًا لنساء غزة أمام مكتب الأمم المتحدة.

إن مجمل العلاقات النيوليبرالية التي تنتهجها مصر، تحجّم من مدى تداخلها مع القضية الفلسطينية، إذ أصبح الموقف المصري منها موقف وساطة دائم غير فعال، فلم تصدر الحكومة المصرية أي بيان شجب أو إدانة لعملية اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، بعدما كانت في خضم مفاوضات للمصالحة تتوسطها الولايات المتحدة وفرنسا. ولم تعلق الدولة المصرية على تجاوز إسرائيل وتماديها في سياسة الحرب، بل ظلت متشبثة بموقفها كجامع للمساعدات، على أنها مؤسسة خيرية كبيرة لا دولة مركزية لها حسبان في المنطقة. لكن ذلك لا يغطي على أكبر استغلال للغزاوية من قبل العرجاني وشركته هلا، حيث تأخذ الشركة 5000 دولار مقابل إخراج الفرد الواحد من غزة بالتنسيق مع إسرائيل، بل والأسوأ هو احتكار شركته أبناء سيناء توريد الوقود لغزة، وقد صرح بعض التجار في أحد التقارير الصحافية بأن شركات شحن العرجاني تتقاضى رشاوى للتعجيل بدخول بضائعهم.

لقد قاست مصر الويلات من ذلك الجار الخبيث، فقد تكبدنا خسائر بشرية في حروب متتالية مع الكيان الصهيوني، ولم تقتصر تلك الدماء على القوات المسلحة فقط، وإنما طالت المدنيين، فقد قصفت إسرائيل مدرسة الأطفال في بحر البقر في محافظة بورسعيد، ومازالت جرائمها تجاه الأطفال مستمرة في فلسطين ولبنان في هذه اللحظة.

إن الشعب المصري يحتقن بالصراخ، فلقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تعليقات كثيرة عن العجز والإحباط والكفر بالدولة المصرية إبان مجزرة مجمع الشفاء الطبي، ثم قطع الاتصال المتتالي مع غزة، ثم الشروع في تجويع الشعب الغزاوي. إن سجن 120 شخصا لتضامنهم مع غزة في مصر جريمة تطبيع معلنة لم تقدم عليها أي دولة عربية حتى الآن؛ والدليل على ذلك أن الجماهير استغلت كل ثغرة ممكنة للتظاهر والتنديد وإعلان عدائها للكيان الصهيوني.

*محمد السادات: مترجم ومحرر وباحث مصري.

**مقالات الرأي لا تعبّر بالضرورة عن منصة مدار.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة