مدار: 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2024
إبراهيم قاسم (الأردن)*
يظهر اليوم، هنا تحديداً في شرقنا العربي، من لا يملكون من تراثنا الزاخر شيئا، يظهرون بتحليل علميّ تعلموه في “NGO” ويُهيّأ لهم أنهم طاليسيّون في الاستنباط والتحليل، فأداة الأمركة في التفكيك نفعت فعلاً مع عقلهم، فقد تفكّكوا من واقعهم ومن معركتهم، بل أصبحوا ضمن محور الاستعمار.. بئسا لهم وتاه سهمهم.
البيان في المقال ليس لهم، فهُم قرروا أن لا يسمعوا، بل الحديث لمن يريد أن يسمع.
حول المعركة
يظن البعض أنه بقوله التحليلي في الغرف المغلقة وببلاهة العارف يفوه بقولٍ يقلّل من أهمية وتأثير الفعل المُقاوم، فيقولون عندما كانت الصواريخ تخرق سقوف البيوت “لا جدوى”، وعندما أصبحت الصواريخ تخرق القواعد العسكرية الصهيونية (التي لم يصلها الأذى في حروب مع جيوش عربية) يقولون “لا جدوى، ضعيفة، ليست ذات أهمية”، ولا يعرفون أنهم أبواق تخدم -بنية أو بدون نية- العدو وتخدم سرديّته أمام رعاته، بل لا يُدركون أنهم بمثل هذا الاصطفاف يُضعفون أبناء جلدتهم. لكن يرد المقاومون في كل مكان ويصدحون رغماً عن هؤلاء البؤساء: المقاومة مستمرة. وهؤلاء الشرقيون العرب يحملون التراث الشعبي والديني والحضاري والثقافي الرافع لقيم الكرامة والمجد والشرف الذي لن يثنيه عنه أحد.
أبناء المعركة، جميعاً، عليهم أن يكونوا مصطفين وموحدين، لا شيء يمكنه الوقوف أمام الإيمان والإرادة. ولا أي قوة استعمارية استطاعت عبر التاريخ أن تقف أمام الإرث الحضاري والتاريخي للشعوب المُستعمَرة، فقط بشرط استمرار فعلها المقاوِم. وبهذا السياق لا بد من الإشارة إلى إدراك الغرب المُستعمِر أن معركته مستمرة مع الشرق، بفعل نهبه، لكن المصيبة تكمن في أن لا يدرك المُستعَمرون هذه الحقيقة، وأن يُصَوَّر لهم أنهم أحرار فقط لأنهم ليسوا عبيدا “بالمعنى الكلاسيكي”.
ماهية الفعل المُقاوم
عند التوهان عليك فقط أن تعود إلى الأبجدية والقواعد الأساسية وإعادة الانطلاق منها، وبهذا فمن الواجب إعادة توضيح معنى المقاومة لأولئك (غربيو الشرق) لعلهم يسمعون.
الفعل المقاوِم هو عملياً رد الفعل الاستعماري، وهو بالضرورة سيكون أضعف من الفعل الاستعماري ذاته لظروفه المادية واللوجستية المعقدة دائماً، ومسارات هذا الفعل متشابكة وموازية لبعضها ضمن سياق التحرير ومجابهة الاستعمار، وانتصار الفعل المُقاوم باستمراره وتطوره، وبهذا فقط يُحقق نقاط الانتصار الإستراتيجي، وكل في مكانه لديه مهمته، التي هي جزء من معركة متكاملة اختار فيها “غربيو الشرق” أن يكونوا في محور العدو لا في محور أبناء جلدتهم.
والمقاومة اليوم في أي دراسة موضوعية ليست ضعيفة أبداً، وإنما قوية بدرجة أصبح الفعل الاستعماري مضطربا يهوي يميناً وشمالاً ويترنح قاتلاً معايير أخلاقية كان يتغنى بها الغرب ويستعمرنا من خلالها.
وبهذا من غير الموضوعي – لأصحاب التحليل الموضوعي أو غربيي الشرق – أن توسم جبهات المقاومة بأنها ضعيفة أو غير موازية لقوة المستعمِر، فلا هي تستطيع أن تكون موازية ولا هي بصدد موازاة القوى، ولكنها بالتأكيد بصدد إيذاء المستعمِر في كافة أماكنه ومصالحه، وتحقيق بالغ الأذى في مجتمعه وجعل مشروعه غير مجد ضمن معادلة ما يتحقق من مصالح مقابل ما يُهدر من جهد وموارد. والحقيقة الآن هي أن هذا العدو يُحقق مكاسب هائلة من استعماره تجعل منه مجنونا في الدفاع عنها، يقتل ويدمر كل ما وقعت عليه يديه، يهوي في كذبٍ لا يخضع لأي منطق، وهذه نتيجة هزيمة كبيرة مُني بها منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي.
وخير مثال في هذا الصدد هو اضطرار الكيان اليوم وبعد أكثر من 76 عاما لقصف أماكن مثل اليمن والعراق وإيران لتحقيق أمنه الضائع، أي إن المقاومة نجحت بالفعل في إبقاء هذه القوة الاستعمارية تحت الخطر، لا بل تتقدم في تحقيق الانتصارات بتنامي انعدام الأمن في مستوطناته.
ويُشيعُ العدو من خلال “غربيي الشرق” أنه يحقق انتصارات متتالية، وأنه قادر على الوصول إلى أي مكان في سبيل أمنه، وهذا بالتحديد انتصار للمقاومة، انتصار لجعله مهددا في كل مكان في العالم، انتصار في جعل “شعبه” يخشى التعريف عن ذاته بـ”الإسرائيلي”، بل ويشعر بأن هذه الهوية أصبحت ثقيلة الحمل، فبنفس المستوى الذي يتم تشتيت العقل العربي الشرقي فيه بمعاني الليبرالية فمجتمع الكيان كذلك ليس مستعداً لتقديم تضحيات في سبيل تحقيق غايات دينية أو استعمارية هو لا يشعر بأنها تمسّه بالمباشر. واليوم تحديداً وبعد عام من طوفان الأقصى يخشى المستعمر من الوقت الذي تنتهي فيه الحرب لاضطراره بعدها لمواجهة إرهاصاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي من الممكن أن تكون هي التي تقتله لا الحرب بحد ذاتها.
وكل هذا ليس تعظيما للمكتسبات التي تحققت، لكنه وصف لها ضمن سياق عمليات مجابهة الاستعمار.
فالمقاومة هي فعل مجابهة مستمر يستهدف تحقيق اختراقات وضربات نوعية (خفيفة وذات أثر) في جسم المستعمر الذي سينهار في النهاية لعدم قدرته على تحمل هذه الآثار.
الشهادة..القادة.. الثأر
تراثنا العربي الشرقي يعتبر من يستشهد في معارك الحرية والشرف والدفاع عن الأرض حراً وحياً؛ حراً لأنه اختار هذه المعركة واختار الموت في سبيل قضيته وكي لا تموت هذه القضية، وحياً لأن ذكره وتراثه الإنسانيّ والأخلاقيّ يبقى بعده، وينتصر في شهادته.
استشهد خلال معركة طوفان الاقصى العديد من القادة، وكان آخرهم السيد حسن نصر الله، وقبله السيد هنية، وقبله السيد العاروري والعديد من القيادات السياسية والعسكرية. مثل هؤلاء القادة قدموا ما عليهم ومضوا بإرادتهم الحرة إلى عليين، *فرحين بما آتاهم الله من فضله*، قدموا لنا إرثاً عظيما نستند إليه في معركتنا، وحمّلوا ورثتهم وصيّة الثأر، لا ثأرا شخصيّا، لكنه ثأر المقاومة، التي تعاطت دوماً مع هذا العنوان بتمتين بُنيتها الاجتماعية والتنظيمية والسياسية والثقافية والعسكرية. بهذا يتحقق الثأر بالنسبة لقوى المقاومة، وباستمرار الفعل المُقاوم يتحقق حتماً النصر، الذي هو بجوهره نصراً لدماء مئات الآلاف من الشهداء الذين مضوا على درب التحرير.
وفي المقابل يرتجف “غربيو الشرق” ويبنون أنفسهم على سرديات الهزيمة واليأس وينشرون سمّ اليأس والذل في خطابهم. ففي معركة العقل يسعى العدو إلى ترسيخ أفكار الهزيمة والعدمية والخوف فينا، فينسَعِر ويضطرب في تثبيت مدى قوته بشكل استعراضي كاذب، فيستشهد قائد أو اثنان أو حتى خمسون، ويحاول بذلك تصوير نصره لمن يرعاهم، لكنه في الحقيقة يربّي الثأر في قوى المقاومة، ويدرك عمق أزمته الوجودية.
الاصطفاف
إن المعركة الحقيقية بين نموذجين من الحياة ونمطها؛ نموذج عدميّ يدعوك إلى الخضوع للقبول بالتوافق والاندماج، ونموذج المقاومة الذي يدعوك إلى الوقوف والاختيار، يدعوك إلى أن تكون إنساناً، إلى أن تكون صاحب المعايير لا خاضعا لها؛ نموذج لا يجرّدك من معناك، نموذج ترابطي بين خياراتك ومعاييرك. هكذا يفهم المستعمِر الصراع، يدافع عن نموذجه الذي بناه ويصوّر كل معارضيه بالفئة الدنيا من البشر الذين لا يعون مصالحهم وإذا رفضوا نموذجه بالشكل المباشر فمن السهولة القصوى وسمهم بالإرهاب أو أي سمة غير منطقية أخرى.
وأولئك “غربيو الشرق” اختاروا الخضوع لنموذج أمريكا على حساب هويتهم وانتمائهم وخندقهم العتيق، اختاروا جانب القوة الظاهرة على حساب القوة الباطنة صاحبة المستقبل، اختاروا المهانة والدولار على حساب العزة والكرامة، سيكتب عنهم التاريخ ثلاثة سطور، بينما سيكتب عن المقاومة مجلدات وحياة من المجد والبأس.
مشروع تجديد الاستعمار
في نهاية الأمر، وبعد مضي عام من المعركة، الواقع أن ما تحقق من هزيمة لهذا المشروع الاستعماري لغاية الآن يُشكل بداية نهاية هذا المشروع، والمهم اليوم هو نبذ الخطاب اليائس العدمي وتحرير العقل العربي باتجاه النصر، واستمرار الفعل المقاوم بكل الوسائل.
العدو يراهن في استمرار حربه على عكس الخوف والهزيمة النفسية في حياتنا لإعادة استعمارنا، هذا فعلياً ما يريده، فلا أهداف له تتحقق، ولا يستطيع أن يحمي مستوطناته ولا مستوطنيه، وانهار أمامه ما بناه طوال مائة عام، لكنه ينازع اليوم على رهان تثبيت معادلة الخراب والموت مقابل الاستسلام، وهذه المعادلة تكسرها جبهة عربية وعالمية حرة مقاوِمة تساندها جبهة شعبية من المقهورين المضطهدين تشكل جيش دفاع أمام مشروع تجديد الاستعمار.
*إبراهيم قاسم عضو قيادة قطاع الشباب والطلاب في حزب الوحدة الشعبية
**مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن مواقف مدار.