[رأي]. “جيل زيد 212” بالمغرب: نضال الشباب يفضح أوهام “الإصلاح” وأزمة الاستبداد البنيوية

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

مدار: 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2025

إبراهيم النافعي (المغرب)

ليس مجرد صرخة عابرة، بل هو تعبير عن أزمة عميقة ومتجذرة. منذ 27 أيلول/ شتنبر 2025، يشهد المغرب نضالاً متصاعداً لحركة شبابية جديدة تُعرف بـ “جيل زيد 212”. لم يأتِ هذا الحراك من فراغ، بل انفجر في سياق سياسي واقتصادي بلغ مستوى غير مسبوق من الاختناق. 

يأتي هذا النضال في ظل استبداد سياسي مُحكم، وإغلاق شبه تام للحقل السياسي أمام أي صوت معارض أو مستقل. لقد ترسّخت سيادة أوليغارشية المال والأعمال على جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها الرسمية، وتحوّل “تضارب المصالح” من استثناء مُدان إلى قاعدة محمية ومُكرَّسة. 

ففي الوقت الذي تُسحق فيه الطبقات الوسطى والفقيرة، تتراكم الثروات بشكل فاحش في يد أقلية تجمع بين السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي، وهو ما تؤكده التقارير الوطنية والدولية حول مؤشرات الفساد والريع، حيث بات مألوفا أن يجمع مسؤولون بين مناصبهم الحكومية وملكيتهم لشركات كبرى تستفيد من صفقات عمومية أو من تشريعات تُفصّل على المقاس.

هذا الاحتقان الاقتصادي والسياسي رافقه تكميم ممنهج للأفواه، عبر الزج بالصحافيين المستقلين والمدونين وأصحاب الرأي في السجون بتهم ملفقة، في محاولة يائسة لإسكات آخر منابر النقد.

إن حركة “جيل زيد 212” ليست ظاهرة معزولة، بل هي امتداد طبيعي وروح متجددة لحركة 20 فبراير المجيدة التي شهدها المغرب عام 2011. تلك الحركة التي فرضت على المخزن تقديم تنازلات سياسية واجتماعية، سرعان ما عمل على الالتفاف عليها وتفريغها من محتواها، ليعود سريعاً إلى مقاربته القمعية المعهودة في التعاطي مع الحركات الشعبية، كما حدث مع حراك الريف الذي لا يزال قادته يقبعون في الزنازين.

تتميز هذه الحركة الجديدة بخصائص لافتة؛ أبرزها قدرتها على الاستمرار والتنظيم لأسابيع متواصلة، بما في ذلك النضال وسط الأسبوع، وهو ما يكسر نمطية الاحتجاجات في نهاية الأسبوع. كما نجحت في تعبئة فئات جديدة وواسعة من الشباب، معتمدة على تقنيات حديثة للتواصل والتعبئة، متجاوزة بذلك الأشكال التنظيمية التقليدية.

وكعادته، كان رد الدولة مزدوجاً: القمع والاحتواء.

أما القمع، فكان وحشياً ومكثفاً، ففي أقل من أربعة أسابيع فقط، شهد المغرب واحدة من أشرس موجات القمع في تاريخه الحديث، نجم عنها حسب تقرير رسمي صادر عن النيابة العامة، أزيد من 5780 توقيفًا، تم تقديم 2480 منهم أمام النيابات العامة، توبع 1473 منهم في حالة اعتقال، و959 في حالة سراح، بينهم فتيات وقاصرين بين معتقل وموقوف. 

وحسب معطيات متطابقة، فقد تجاوز عدد المدانين مئات المتهمين البالغين، ناهز مجموع الأحكام الصادرة في حقهم مئات السنوات من السجن النافذ، تتراوح بين سنة وخمس عشرة سنة سجنًا نافذًا، فيما بلغ عدد القاصرين الذين صدرت في حقهم أحكام ابتدائية مئة واثنان وستون قاصرًا. في رسالة ترهيب واضحة. وإلى جانب القمع المباشر، تم تسخير بعض الأصوات المحسوبة على النظام المغربي المعروف بـ “المخزن”، سواء تلك التي تدّعي الانتماء للحركة الأمازيغية أو لبعض المناطق، بهدف ضرب وحدة الحركة وتشتيتها طائفياً أو جهوياً.

وأما الاحتواء، فقد تجلّى في سياق الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، حيث سارعت الدولة المخزنية إلى الإعلان عن زيادة في ميزانية قطاعي الصحة والتعليم في مشروع قانون مالية 2026، محاولةً بذلك امتصاص الغضب الشعبي المتصاعد واحتواء المدّ النضالي الذي وحّد فئات واسعة من الشباب والطبقات المتضرّرة.

لكن، ورغم أهمية هذه الزيادة في ظاهرها، فإنها لا ترقى إلى مستوى الإصلاح الحقيقي، ولا تمسّ جوهر الاختلالات البنيوية التي يعاني منها هذان القطاعان الحيويين. فالوضع الكارثي الذي يعيشه التعليم والصحة ليس نتيجة نقصٍ ظرفي في الموارد المالية فحسب، بل هو حصيلة تراكم عقود من السياسات النيوليبرالية القائمة على الخوصصة، والزبونية، والفساد البنيوي، والتبعية للمؤسسات المالية الدولية.

إن الرفع من الميزانية، في ظل استمرار نفس المنظور والسياسات والمسؤولين الذين أوصلوا القطاعين إلى هذه الحالة، لا يمكن أن يكون إلا إجراءً تجميليًا يهدف إلى تهدئة الشارع لا غير.

ثم إن ما تقدّمه الحكومة من أرقام حول “الرفع من الميزانية” ملغوم ومضلل، إذ تُدرج ضمنها بنودًا غير مرتبطة مباشرة بتجويد الخدمات العمومية، مثل دمج قطاع الرياضة ضمن وزارة التربية الوطنية، وضمّ الحماية الاجتماعية ضمن وزارة الصحة، في محاولة مكشوفة لتضخيم الأرقام وتلميع صورة إصلاح وهمي.

أما على أرض الواقع، فما يزال المواطن المغربي يواجه يوميًا انهيار المنظومة الصحية والتعليمية، واستمرار الإفلات من العقاب في قضايا الفساد المالي والإداري، مما يجعل أي حديث عن “إصلاح” أو “تحسين” محض دعاية سياسية بلا أثر فعلي على حق المواطنين في تعليم وصحة عموميين مجانيين وجيدين.

إن جوهر الأزمة السياسية في المغرب لا يكمن في تمكين الشباب أو النساء من ولوج البرلمان أو مواقع القرار، كما تحاول الدولة الترويج لذلك عبر تعديلات انتخابية سطحية، بل في الاستبداد المخزني الممأسس الذي يحصّنه دستور ممنوح يكرّس الحكم الفردي المطلق، ويحوّل مؤسسات الدولة إلى واجهات شكلية بلا صلاحيات حقيقية.

ففي ظل هذا الواقع، لا يمكن لأي مشاركة سياسية أن تكون ذات معنى، ما دامت الحكومة لا تحكم، والبرلمان لا يشرّع، والسلطة التنفيذية الفعلية مركّزة في يد واحدة. إن الحديث عن تجديد النخب أو تشبيب الحياة السياسية لا يعدو كونه محاولة لإعادة تدوير الولاءات وخلق جيل جديد من الباحثين عن الامتيازات داخل بنية سلطوية مغلقة، لا تسمح بأي تغيير ديمقراطي فعلي.

المشكل في المغرب ليس في حضور أو غياب الشباب فقط، بل في غياب الديمقراطية نفسها، وفي التحكّم البنيوي لوزارة الداخلية في العملية الانتخابية، وفي دستور يفرغ مفهوم السيادة الشعبية من محتواه.

ولهذا، فإن أي مسار نحو الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن يبدأ من داخل المنظومة المخزنية، بل من مشروع تحرّري شعبي، مدخله إسقاط الاستبداد وبناء دستور ديمقراطي شكلاً ومضمونًا، يكرّس الفصل الحقيقي بين السلط، ويجعل الشعب مصدر السلط وصاحب السيادة الفعلية.

بدون ذلك، سيظل أي تعديل أو إصلاح سياسي مجرد مسرحية لإعادة إنتاج نفس النظام بوجوه جديدة، دون أي رهان مجتمعي على التغيير الجذري المنشود.

إن نضال جيل زيد 212 هو استمرار لنضالات الشعب المغربي ضد القهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، وهو تعبير عن وعي جديد يرفض التهميش والوعود الفارغة، ويؤمن أن الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لا تُمنح، بل تُنتزع.

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

مقالات ذات صلة

العراق

كيف تحولت 80% من مصانع العراق إلى خردة؟

مدار: 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 تحولت الصناعة العراقية من رافد رئيسي للاقتصاد الوطني ومصدر لمئات الآلاف من الوظائف، إلى قطاع يصارع الاندثار الكامل، قطاع