معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: رشيد دياب (السودان)، خارج دائرة الضوء، 2015.
في إحدى الأمسيات الصيفية، رفضت الشمس فوق النيجر أن تغيب في الأفق. بحثت أنا وثلاثة رجال قلقون آخرون عن بعض الظل في توبا أو بارادايس وهو مطعم صغير هادئ في أغاديس. هؤلاء النيجيريون الثلاثة حاولوا العبور من أساماكا إلى الشمال نحو الجزائر، لكنهم وجدوا الحدود مغلقة. كانوا يأملون في أن تكون وجهتهم النهائية هي أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، لكن كان عليهم أولاً الوصول إلى الجزائر، ثم عبور الصحراء الكبرى الرائعة. وبحلول الوقت الذي قابلتهم فيه، لم يكن أي من هذين المعبرين ممكناً.
كانت الجزائر أغلقت الحدود، وأصبحت بلدة أساماكا مكتظة بالناس اليائسين الذين لم يرغبوا في التراجع ولكنهم لم يستطيعوا التقدم إلى الأمام. أخبرني هؤلاء الرجال أنهم فروا من نيجيريا ليس بسبب أي تهديد أو خطر جسدي، ولكن ببساطة لأنهم لم يتمكنوا من كسب لقمة العيش في مسقط رأسهم. فالتضخم المرتفع والبطالة جعلا الوضع في نيجيريا مستحيلاً. قالوا: ”كيف يمكننا أن نبقى في وطننا وقد أصبحنا عبئًا على عائلاتنا حتى بعد أن أنهينا دراستنا؟” ثلاثة رجال نيجيريين متعلمين يائسين من كسب لقمة العيش، وغير قادرين على كسبها في وطنهم، قرروا ضد رغبتهم القيام برحلة قد تكون قاتلة بحثًا عن وسيلة للعيش بكرامة.
أجريت نفس هذه المحادثة مع مهاجرين من عدة قارات. إذا أمكن احتساب إجمالي عدد المهاجرين في العالم – المقدّر بـ 281 مليون مهاجر في عام 2020 – كدولة واحدة، فستكون رابع أكبر دولة من حيث عدد السكان بعد الصين والهند والولايات المتحدة. لكل مهاجر قصة فريدة من نوعها بالطبع، ولكن بعض الاتجاهات متشابهة. فمعظم المهاجرين اليوم لا تنطبق عليهم الفئات القديمة للاجئين بموجب المعاهدة – أي طالبي اللجوء الهاربين من الاضطهاد على أساس ”العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي“. ويأتي هذا التعريف من اتفاقية وبروتوكول عام 1951 المتعلقين بوضع اللاجئين، والتي تمت صياغتها في أوائل حقبة الحرب الباردة. كانت التوترات عالية في ذلك الوقت، حيث كانت الدول الغربية تشكل غالبية أعضاء الأمم المتحدة. من كانون الثاني/ يناير إلى أغسطس/ آب 1950، قاطع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية مختلف هيئات المنظمة لأن الأمم المتحدة لم تمنح جمهورية الصين الشعبية مقعداً في مجلس الأمن. وعلى هذا النحو، استندت الاتفاقية على مفهوم غربي للاجئين كأشخاص يفرون من ”اللا حرية“ (يُفترض أنه الاتحاد السوفييتي) إلى ”الحرية“ (يُفترض أنه الغرب). لم يكن هناك أي بند يتعلق بحركة الأشخاص الذين أجبروا على الوقوع في ضائقة اقتصادية قاسية بسبب البنية الاستعمارية الجديدة للاقتصاد العالمي.
على الرغم من المحاولات العديدة لإعادة تعريف مصطلح “لاجئ”، يبقى في القانون الدولي كمصطلح متعلق بالاضطهاد وليس التجويع، فعلى سبيل المثال، لم يتعرض الرجال الثلاثة في أغاديس إلى الاضطهاد وفقا لاتفاقية 1951 ولكنهم عانوا كثيرا في بلد يعاني من أزمة اقتصادية طويلة الأمد. وقد انبثقت هذه الأزمة من العناصر التالية: جزء أولي من الديون الموروثة من الحكام البريطانيين؛ ديون أخرى من نادي باريس للدول الدائنة التي استخدمت لبناء البنية التحتية المهملة خلال ماضي نيجيريا الاستعماري (مثل مشروع سد النيجر)؛ المزيد من الديون التي تفاقمت بسبب الاقتراض الداخلي لتحديث الاقتصاد؛ سرقة الإتاوات من مبيعات نيجيريا النفطية الكبيرة. تمتلك نيجيريا عاشر أكبر احتياطي نفطي في العالم، ولكن معدل الفقر فيها يبلغ حوالي 40%. ويرجع جزء من هذا الوضع الفاضح إلى التفاوت الاجتماعي الشديد: فأغنى رجل في نيجيريا، أليكو دانغوتي، لديه ثروة تكفي لإنفاق مليون دولار في اليوم لمدة اثنين وأربعين عامًا. في حين يملك الرجال الثلاثة في أغاديس ما يكفي من المال لعبور الصحراء الكبرى، ولكن ليس ما يكفي لعبور البحر الأبيض المتوسط. وبينما كنت أتحدث إليهم، راودتني فكرة أنهم سيفشلون على الأرجح في أول عقبة أمامهم. ما كان أمامهم هو الكفاح من أجل العودة إلى ديارهم، حيث لم يبقَ لهم شيء بعد أن قاموا بتصفية جميع ممتلكاتهم من أجل الرحلة الفاشلة.
لماذا يرغب هؤلاء الرجال بالسفر إلى أوروبا؟ لأن أوروبا تروج لصورة الثروة و الفرصة لبقية العالم. هذا هو تحديدا ما ظلوايخبرونني به. فبلدان المستعمرين القدامى تغري المهاجرين، مدنهم التي بُنيت جزئياً على ثروات منهوبة تجذب المهاجرين الآن.
ويستمر هؤلاء المُستعمرون القدامى في نهب البلدان النامية: أكبر خمس شركات نفط تعمل في نيجيريا هي “شل” (المملكة المتحدة)، و”شيفرون” (الولايات المتحدة)، و”توتال إنرجي” (فرنسا)، و”إكسون موبيل” (الولايات المتحدة)، و”إيني” (إيطاليا). كما يستمر هؤلاء المستعمرون القدامى في بيع الأسلحة لمستعمراتهم السابقة وقصفها عندما يريدون ممارسة سيادتهم.
نشر الكاتب الهندي إميتافا كومار، عام 1996، قصيدة بعنوان “المطعم العراقي”، واصفة حقيقة تطارد هذه المراسلة:
حول الأمريكيون كل منزل
في بغداد إلى فرن
وانتظروا
بالنسبة للعراقيين
أن يظهروا كطهاة
في الولايات المتحدة مثل الفيتناميين من قبلهم.
كنت أفكر في الآونة الأخيرة في المهاجرين الذين يحاولون أيضا تسلق السياج الحدودي في مليلية بين المغرب وإسبانيا، أو الذين يحاولون عبور فجوة دارين بين كولومبيا وبنما، أو أولئك الذين يقبعون في سجون مثل مركز اعتقال جزيرة مانوس في بابوا غينيا الجديدة، أو مركز المعالجة إل باسو ديل نورتي. معظمهم من ”لاجئي صندوق النقد الدولي“، أو ”لاجئي تغيير النظام“، أو لاجئي المناخ. هذه مصطلحات غير معروفة في معجم اتفاقية عام 1951. ويجب أن تأخذ اتفاقية جديدة وجودهم على محمل الجد.
من بين ما يقدر مجموعه بـ 281 مليون مهاجر ، هناك 26.4 مليون لاجئ مسجل و 4.1 مليون طالب لجوء مسجل. وهذا يعني أن العديد من الـ 250.5 مليون مهاجر آخرون هم إما من صندوق النقد الدولي ، تغيير النظام أو لاجئين بسبب تغير المناخ. عندما يشير تقرير الهجرة العالمي لعام 2024 الصادر عن الأمم المتحدة إلى أن ”عدد النازحين بسبب النزاعات والعنف والكوارث وغيرها من الأسباب قد ارتفع إلى أعلى مستوياته في سجلات العصر الحديث“، فإنه يشير إلى هؤلاء المهاجرين وليس فقط إلى الفارين من الاضطهاد.
أود ان استكشف الظروف التي خلقت هؤلاء اللاجئين الغير المعترف بهم رسميا بمزيد من التفاصيل:
1. لاجئو صندوق النقد الدولي (IMF)
- لقد ضربت أزمة ديون العالم الثالث كل البلدان النامية تقريبا، والتي تجسدت في إفلاس المكسيك عام 1982. وكان الترياق الوحيد المتاح هو قبول مشروطيات صندوق النقد الدولي لبرنامج التقويم الهيكلي. وكان على البلدان النامية أن تخفض الدعم الموجه للصحة والتعليم وتفتح اقتصاداتها للاستغلال الموجه للتصدير.
- كانت النتيجة الصافية هي تدهور سبل العيش في غالبية الدول منهم، ما دفعهم إلى مهن غير مستقرة محليا والى هجرة خطيرة للخارج. أظهر تقرير صادر عن بنك التنمية الأفريقي عام 2018 أنه بسبب الهجوم على الزراعة العالمية، انتقل الفلاحون في غرب أفريقيا من المناطق الريفية إلى المدن، إلى الخدمات الغير رسمية منخفضة الإنتاجية ومن هناك، يقررون المغادرة نحو إغراء الدخل الأعلى في الغرب والخليج. في عام 2020، على سبيل المثال، كانت أكبر الهجرات نحو ثلاثة بلدان منفردة (الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة العربية السعودية)، حيث غالباً ما تكون المعاملة التي يتلقاها المهاجرون مروعة. هذه أنماط هجرة تبعث على اليأس الشديد وليس الأمل.
2. لاجئو تغير النظام
- منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، زادت الولايات المتحدة من قوتها العسكرية والاقتصادية للاطاحة بالحكومات التي تحاول فرض سيادتها على أراضيها. وفي الوقت الحاضر، يواجه ثلث جميع البلدان، وخاصة البلدان النامية، عقوبات أمريكية زجرية. وبما أن هذه العقوبات غالبًا ما تحرم الدول من استخدام النظام المالي الدولي، فإن هذه السياسات تخلق فوضى اقتصادية وتسبب ضائقة واسعة النطاق. إن الـ 6.1 مليون مهاجر فنزويلي الذين غادروا بلادهم، فعلوا ذلك بشكل رئيسي بسبب نظام العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، والتي أفقدت اقتصاد البلاد حيويته.
- من الملفت للنظر أن الدول الأكثر تطبيقًا لسياسات تغيير الأنظمة، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هي الأقل إحسانًا إلى الفارين من حروبها. فألمانيا، على سبيل المثال، بدأت في ترحيل الأفغان، بينما تطرد الولايات المتحدة الفنزويليين الذين أقاموا مخيمات في خواريز بالمكسيك بدافع اليأس.
3. لاجئو تغير المناخ
- في عام 2015، في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP21) في باريس، اتفق قادة الحكومات على إنشاء فريق عمل معني بالنزوح. وبعد ثلاث سنوات، سنة 2018، وافق الميثاق العالمي للأمم المتحدة على ضرورة حماية أولئك الذين يتنقلون بسبب تدهور المناخ. ومع ذلك، فإن مفهوم لاجئي المناخ لم يترسخ بعد.
- عام 2021، قدر تقرير للبنك الدولي أنه بحلول عام 2050 سيكون هناك ما لا يقل عن 216 مليون لاجئ مناخي. ومع ارتفاع منسوب المياه، ستبدأ الجزر الصغيرة في الاختفاء، مما يجعل سكانها ناجين من كارثة ليست من صنعهم. وتتحمل البلدان ذات البصمة الكربونية الأكبر المسؤولية عن أولئك الذين سيفقدون أراضيهم بسبب ويلات ارتفاع منسوب البحار.
لا يرغب أي مهاجر في مغادرة وطنه ومعاملته كمواطن من الدرجة الثانية من قبل الدول التي أجبرته على الهجرة في المقام الأول (كما يوضح تقرير منتدى زيتكين للبحوث الاجتماعية بعنوان ”ترحيل الواردات“: أنظمة المهاجرين الأوروبيين في أوقات الأزمات). لا ترغب النساء عادةً في السفر لمسافات طويلة، لأن خطر العنف القائم على نوع الجنس يشكل خطراً أكبر عليهن. ويفضلن العيش بكرامة أينما اخترن ذلك. سياسات تنموية جديدة في الدول الفقيرة، ووضع حد للتغييرات القسرية للأنظمة التي تجلب الحرب والدمار، واتخاذ إجراءات أكثر قوة بشأن الكارثة المناخية: هذه هي أفضل الطرق لمعالجة أزمة اللاجئين المتفاقمة.
قبل عقد من الزمان، كتب الشاعر الفلسطيني الدكتور فادي جودة ”محاكاة“، وهو عبارة عن تأمل في هذا الخط الفكري فقط:
ابنتي
لن تؤذي عنكبوتاً
عشش
بين مقابض دراجتها الهوائية
لمدة أسبوعين
انتظرت
حتى غادر من تلقاء نفسه
قلت إذا مزقت الشبكة
ستعرف ببساطة
أن هذا ليس مكاناً لتسميه منزلاً
وستذهبين لركوب الدراجة
قالت هكذا يصبح الآخرون
لاجئين أليس كذلك؟
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 05 سبتمبر/ أيلول 2024.