معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية / مدار: 11 شباط/ فبراير 2021
فيجاي براشاد
خلال الأشهر الأولى التي تلت إعلان منظمة الصحة العالمية عن كورونا جائحة عالمية، كتبت الروائية الهندية هارونداتي روي عن أمالها أن تكون الجائحة بوابة عبور بين هذا العالم والمستقبل؛ وقد تمنت، بكلمات أخرى، أن يعترف العالم بمشاكله العويصة التي تفاقمت بفعل الجائحة، وأن تتفتح آفاق إعادة تنظيم البنيات الاجتماعية، ما لن يتحقق إلا إذا تغيرت البنية الطبقية للدولة في معظم بلدان العالم.
مع ذلك، لن يمكّن مجرد الاعتراف بالمشاكل من استيعابها في العديد من الأماكن، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وبعض البلدان النامية الكبرى من قبيل الهند والبرازيل.
في الحقيقة، أثبتت الوقائع السنة الماضية عكس ذلك تماماً: عوض تغيير النظام المأزوم من أجل وضع مصلحة الأغلبية الساحقة للشعب قبل أرباح الأقلية، لجأت الطبقات المسيطرة في هذه البلدان إلى استعمال الأموال العمومية لدعم النظام الرأسمالي المأزوم والمعادي للشعوب.
وقد أظهر تقرير حديث لمنظمة أوكسفام أن ثروة أكبر عشرة أغنياء في العالم ازدادت بنصف ترليون دولار منذ بداية الجائحة، أي أكثر مما يكفي لدفع تكاليف اللقاح لجميع الناس وضمان ألا يسقط أحد في براثن الفقر بسبب الجائحة. وعوض استعمال هذه الأموال من أجل توفير اللقاح والقضاء على الفقر، ذهبت للملاذات الضريبية غير القانونية والحسابات البنكية المتضخمة.
صارت قومية اللقاحات والمجاعة مميزات للمجتمع الرأسمالي.
في المقابل، نجح النموذج الاشتراكي المتبع في الصين في القضاء على الفقر المدقع خلال الجائحة.
وفي نوفمبر 2020، أعلنت سلطات ولاية غويزو بالجنوب الغربي أن آخر تسعة أقاليم فقيرة أزيلت من لائحة الفقر، ما يعني انتشال جميع الأقاليم البالغ عددها 832 إقليما من الفقر. وقد مكنت السياسات التي وضعتها الصين خلال السنوات السبع الأخيرة حوالي 80 مليون مواطن صيني من تجاوز حالة الفقر (تقريبا ما يعادل مجموع سكان ألمانيا). كما بلغ مجموع المواطنين الصينيين الذين تغلبوا على الفقر حوالي 850 مليونا منذ ثورة 1949.
واعتمت الصين في هذا التحول على ثلاثة مرتكزات: أولاً أن ترفع جميع العائلات الصينية من تحت خط الفقر في الأرياف، وثانياً أن يضع المشروع الشيوعي حداً لاثنين من أكبر المشاكل “المقلقة”: الجوع واللباس.. ثالثاً، أن تعمل الدولة الصينية على تحقيق “الضمانات الثلاث”: التعليم والتغطية الصحية والسكن. وقد تحققت كل هذه المرتكزات خلال الجائحة.
لا يوجد مجال للشك في أن المشروع الاشتراكي تطور بشكل كبير في البلدان الفقيرة أكثر من المشروع الرأسمالي المأزوم، رغم غنى البلدان التي يوجد بها؛ وكمثال على الطبيعة الكارثية لهذا النظام، تقدر منظمة العمل الدولية أن مجموع مداخيل الشغل انخفضت بحوالي 10.7 بالمائة خلال الأرباع الثلاثة الأولى من سنة 2020، ما يمثل خسارة 3.5 ترليونات دولار من مداخيل الشغل (حوالي 5.5 بالمائة من الإنتاج لسنة 2019). وهذا يعني أن الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية فقدت إمكانية دفع تكلفة القلقين (الجوع واللباس) والضمانات الثلاث (التعليم، التغطية الصحية والسكن)، وهي عادة قطاعات مخوصصة.
وبسبب ضعف الدول الاشتراكية والحركة الاشتراكية العالمية، تتعرض إيجابيات هذا المشروع الاشتراكي للتشويه في إطار حرب إعلامية متصاعدة. بالإضافة إلى ذلك، لم يتمكن بعد منطق وضع الأرواح قبل الأرباح من قيادة التوجهات السياسية العالمية، بل على العكس، يمكن تعريف الظرف الراهن بثلاثة أنظمة أبارتايد.
أبرتهايد المال: تفوق المديونية الخارجية للدول النامية 11 تريليون دولار، مع توقعات أن تبلغ قيمة أداء الديون حوالي 4 ترليونات دولار مع نهاية السنة الجارية. وفي السنة الماضية، أنفقت ست دول لأداء مستحقات الديون أكثر مما تنفقه على الرعاية الصحية. وفي السياق نفسه، ورد حديث خجول عن الإعفاء من الديون مع تحفيز الدول من طرف صندوق النقد الدولي لاقتراض المزيد من المال، بحجة انخفاض معدلات الفائدة. لكن عوض المزيد من الديون، لم لا يتم إلغاء مجموع الديون الخارجية وفي الوقت نفسه حجز 37 مليار دولار التي تقبع في الملاذات الضريبية غير القانونية؟.
ومن جهة أخرى، تستعمل عادة كلمة “إعفاء” للإحالة على إلغاء الديون، بينما في الواقع لا يوجد أي شئ تعفى منه الدول المستدينة، لأن هذه الديون تعتبر نتيجة لتاريخ طويل من السرقة والاضطهاد الاستعماري. وبينما تستطيع الدول الغنية الاقتراض بمعدلات فائدة تبلغ الصفر، تفرض على الدول النامية معدلات فوائد ربوية وديون كريهة تسدد بتمويلات كان يجب أن ترصد لكسر سلسلة عدوى كوفيد-19.
2. الأبرتهايد الطبي: صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تدروس أنون غربيسوس، بأن العالم على شفا “فشل أخلاقي تاريخي”؛ وقد كان يقصد النزعة القومية للقاحات واحتكارها في بلدان المشروع الرأسمالي. إذ تجاهلت بلدان شمال المحيط الأطلسي (كندا، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة والعديد من الدول الأوروبية) نداء الهند وجنوب إفريقيا لإلغاء قوانين الملكية الفكرية المتعلقة باللقاح. وقد تلكأت هذه الدول عن تمويل مشروع COVAX، ما قد يعرضه لفشل كبير ويحرم العديد من الناس في البلدان النامية من اللقاح قبل 2024؛ كما تدخر اللقاحات، مثل حال كندا التي تعمل على إنشاء احتياطي يبلغ خمسة لقاحات لكل كندي، سحبتها من مشروع COVAX. ويوجد فرق شاسع بين هذا النزوع القومي في اللقاحات والانفتاح الأممي الاشتراكي الذي عبر عنه الأطباء الكوبيون والصينيون. لذلك نعتبر أنه من المهم دعم حملة ترشيح اللواء الطبي العالمي هنري ريفي لجائزة نوبل لسنة 2021.
3. أبرتايد الطعام: بدأت المجاعة ترتفع في العالم بعد أن انخفضت في الفترة من 2005 إلى 2014 (وذلك رغم أن الصين قضت على الفقر خلال هذه الفترة). وقد عادت معدلات المجاعة في العالم إلى ما كانت عليه سنة 2010. ويظهر تقرير منظمة الأمم المتحدة للتغذية والفلاحة (FAO) لسنة 2020 حول انعدام الأمن الغذائي أن عدد الجوعى في العالم سيتجاوز 840 مليون شخص بحلول سنة 2030. لكن هذه التوقعات منخفضة، لأن انخفاض كمية ونوعية الطعام المتوفر للناس أثر على حوالي ملياري شخص (26 في المائة من ساكنة العالم). وعانى هذا الجزء العريض من الناس من الجوع “ولا يمتلكون أي قدرة على الحصول على الطعام الكافي والمغذي بشكل منتتظم سنة 2019″، أي قبل الجائحة. ويتوقع برنامج الأمم المتحدة للتغذية العالمية أن عدد الجوعى في العالم قد يتضاعف قبل احتواء الجائحة.
ومع انتشار جائحة الجوع، يفترض العقل أن تدعم السياسات الفلاحين والعمال الزراعيين من أجل إنتاج غذاء ذي نوعية جيدة في وقت الجائحة. ويتوجب تقوية أنظمة الدعم من أجل توفير الغذاء. لكن على عكس ذلك، لم يبد صندوق النقد الدولي والوكالات الدولية الأخرى أي إشارة إلى الدول النامية من أجل دعم الأنظمة العمومية لتوزيع الغذاء. وفي الهند، عملت حكومة اليمين المتطرف على كسر نظام دعم الأسعار، ما جعل الفلاحين يخوضون ثورة طويلة المدى تهدد بتشكيل واقع سياسي جديد بالهند. وتقبع خلف سياسة إلغاء دعم الفلاحين بدول مثل الهند سياسة الكيل بمكيالين، التي تشكل جوهر أبرتهايد الغذاء: أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية 1.7 تريليون دولار خلال العشرين سنة الأخيرة من أجل دعم فلاحيها، أغلبهم ضمن شركات كبرى، بينما ينفق الاتحاد الأوروبي 65 مليار كل سنة من أجل دعم الفلاحين. الدعم حلال على دول الشمال حرام على دول الجنوب.
هذه هي أنظمة الأبارتايد التي يقوم عليها النظام العالمي خارج الدول التي تبنت المشروع الاشتراكي، الذي يعيش في الوقت نفسه تحت خطر الهجوم العسكري وتكنولوجيات الحرب الهجينة (مثل الحرب الإعلامية، الحرب الاقتصادية، الحرب الدبلوماسية…). وتنتهج دول شمال الأطلسي سياسة المواجهة عوض التعاون وتقود توجهاً للعالم يقوم على الصراع عوض التضامن.
ويمكن للجائحة أن تكون بوابة للتغيير، لكن ليس لكونها ستفتح عيون النخب بشكل تلقائي؛ فهم يضخون الأموال من أجل إنقاذ الأبناك وضمان ألا يتهاوى العرض، هذا هو حافزهم ولا يعتزمون إلغاء أي قروض أو إنتاج لقاح للشعب، ولا يهمهم أن تكون أنظمة الغذاء وثيقة الصلة بالفلاحين والعمال الزراعيين المنتجين. لن يلغوا أبداً أنظمة الأبرتهايد من تلقاء نفسهم.
يميل الأثر السلبي للجائحة على العمال والفلاحين في دول الجنوب، خصوصاً، إلى المزيد من تخفيض الأجور بما يقوي قوة المساومة للشركات متعددة الجنسيات. إذ كلما تدنت الأجور والمداخيل، ونقصت الأجور الاجتماعية، كلما صارت الشركات قادرة على طلب أجور أقل من العمال. لكن تدهور الأوضاع المعيشية الذي يفوق الاحتمال يجابه بمقاومة شرسة.
تعتبر ثورة العمال الزراعيين والفلاحين في الهند، وإضرابات عمال الصحة في كينيا وبيرو، والمظاهرات العارمة للشعوب في هايتي وتونس، والنضالات ضد فشل الحكومات في تدبير الأزمة في البرازيل، والمظاهرات من أجل تشريع الإجهاض في الأرجنتين، ملامح انتفاضات الشعوب، أو ما وصفها هيجل بـ”الجدية، المعاناة، الصبر والعمل السلبي” في كتابه فنومينولوجيا الروح (1807). يشكل هذا العمل السلبي، وهذه النضالات التي تخوضها المنظمات والحركات التي تبني الثقة وقوة الطبقة العاملة والفلاحين، الحركية التي ستتمكن من قيادة برنامج التغيير إلى الأمام. إنهم يعبدون الطريق عبر مسيرتهم.
لا تستطيع النخبة حل المشاكل اليومية التي تخلقها أزمة الرأسمالية البنيوية، كما أنها لا تستطيع حل المشاكل الطارئة التي سببتها الجائحة. من هذا العجز تنبع النضالات وتطرح الحركات برنامجها إلى الأمام من أجل فتح البوابة التي ستؤدي بالتأكيد إلى الخروج من هذه الجائحة ومن عذاب الرأسمالية.